ذاكرة حية – محمد بن عبدالرزاق القشعمي
منذ أن قرأت كتاب ( توحيد المملكة العربية السعودية) لمحمد المانع قبل نحو أربعين سنة، وأنا معجب به وبما كتب عن فترة تأسيس المملكة.
وقد أشار إلى بدايات عمل المؤسسات السياسية، واعتماد السلطان عبدالعزيز على بعض التجار النجديين المستقرين في بعض الدول بصفتهم وكلاء له. نجده يقول: “.. فقبل استيلاء الملك عبدالعزيز على الحجاز لم يكن له قناصل رسميون، أو ممثلون دبلوماسيون في الدول الأجنبية، وكان بعض التجار النجديين المستقرين في تلك الدول يعملون بصفتهم وكلاء له، وكان جلالته يختار من هؤلاء من أمضوا فترة طويلة في مكان معين، واشتهروا بالأمانة والصدق والنزاهة الأخلاقية”.
وقال: إن من يختارهم لا يتسلمون أجوراً على ما يقومون به من خدمات، وإنما يكسبون رفعة اجتماعية ومزايا في تعاملهم التجاري كونهم وكلاء للملك. وذكر من المشهورين: الشيخ فوزان السابق في القاهرة، وعبداللطيف باشا المنديل في البصرة وبغداد، والشيخ عبدالله النفيسي في الكويت، والشيخ عبدالله الفوزان في بومبي بالهند، والشيخ ابن ليلى في دمشق، والشيخ عبدالرحمن القصيبي في البحرين. وقال: “ وقد بذل هؤلاء الرجال جهداً عظيماً لصالح بلادهم في الخارج، ومن المؤسف له أن كثيرين منهم لا يكادون يذكرون في الوقت الحاضر..”(1).
وقد أعجبت بهذه الشخصيات وبحثت عن معلومات نشرت عنهم رغم شحها، فكتبت عدداً من المقالات عنهم في المجلة العربية، وبدأت تصلني إضافات ووثائق وصور من أبنائهم وأحفادهم فجمعت ما كتبته عنهم وبعثته لدارة الملك عبدالعزيز مشاركاً في (جائزة ومنحة سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز (الملك) لدراسات تاريخ الجزيرة العربية) وقد فاز ضمن موضوع (منحة الدراسات والبحوث) لعام 1427هـ/ 2006م، فجمعت المقالات ونشرتها مجلة الدارة على حلقتين، ثم طبعتها في كتاب (معتمدو الملك عبدالعزيز ووكلاؤه في الخارج).
وقد ذكر الدكتور عبدالله العثيمين مترجم كتاب المانع: “… والكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم يتناول سيرة زعيم من عظماء القادة في العصر الذي عاش فيه؛ هو المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود. ومؤلف هذا الكتاب ممن عمل مع ذلك الزعيم جنباً إلى جنب تسع سنوات، فسحرته بطولاته وأسرته شخصيته، وكان العامل الأكبر في تأليفه له التعبير عن تقديره الخاص لذلك الملك. وكان مما دفعه إلى كتابته بالإنجليزي إيضاح وجهة النظر العربية للقارئ الغربي عن التاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية..” (2).
وقال ان الكتاب رواية تمتزج فيها الذكريات الشخصية بالآراء الذاتية عن حوادث الفترة التي تناولها.. وقال: إن مؤلفه قد وُفِّق إلى إخراجه في عرض شيق وأسلوب جذاب. وفي مقدمة المؤلف وصف بلدة (الزبير) بالعراق حيث ولد في مطلع القرن العشرين وقال: “.. وكان أبي، النجدي الأصيل، يعمل في تجارة الخيول العربية. وكان أكثر زبائنه مهراجات الهند ورجال سلاح الفرسان البريطانيين، وحين بلغت العاشرة من عمري أخذني لأعيش معه في بومبي. وقد أمضيت هناك اثنتي عشرة سنة من حياتي، درست خلالها في إحدى المدارس الإنجليزية..” (3).
وقال: إنه يساعد والده في تجارته ومع ذلك فهو مهتم بشؤون وطنه، الجزيرة العربية، وسمع بظهور قائد عظيم اسمه عبدالعزيز بن سعود، فسحرته بطولاته، فصمم على أن يقوم بخدمته. فطلب العودة رغم محاولات والده إقناعه بالبقاء في الهند لدراسة الطب .
عاد للزبير واتصل بجريدة (بصرة تايمز) الصادرة باللغة الإنجليزية، وكان له علاقة برئيس تحريرها فعرض عليه العمل بها، ولكن المنافسات الجارية داخل مكاتب الصحيفة حرمته من العمل بها. فساءت حالته المادية، ولم يشأ والده أن يساعده لأنه لم يصغ لنصائحه. وبالصدفة زاره أحد أقاربه في الزبير، فسأله عن أخبار البصرة القادم منها، فذكر له أن مندوبين من ديوان ابن سعود في زيارتها، فذهب مباشرة إلى رئيس تحرير (بصرة تايمز) وسأله إذا كان يرغب في نشر مقابلة مع أحد وزراء ابن سعود، فرحب بالفكرة وفي اليوم التالي توجه للبصرة وأجرى مقابلة صحفية مع الوزيرين: عبدالله الدملوجي، وحافظ وهبة.
وسألهم عند نهاية المقابلة عن إمكانية وجود عمل له في ديوان ابن سعود. وعندما علما أنه متعلم بالهند ويتقن اللغة الإنجليزية والأوردية، فوعداه خيراً. وبعد أسبوعين وصلته برقية تفيد بتعيينه مترجماً في ديوان الملك. فشد الرحيل إلى مكة ووصلها في السادس والعشرين من شهر مايو سنة 1926هـ 1344هـ وهو غير مصدق.
وقال: “ .. وبقيت مترجماً في الديوان تسع سنوات كاملة كنت خلالها مرافقاً لجلالته في كل أسفاره، وغزواته. وكانت تلك الفترة مليئة بالأحداث الكبيرة. فقد شهدت انبثاق نجم حركة الإخوان الصاعد ثم تمردهم ونهايتهم، كما شهدت الحرب مع اليمن وبداية قصة الزيت العربي، وحينما انتهت خدمتي في الديوان كان لدي الشيء الكثير مما يمكن أن أقوله عن تجاربي الخاصة..”.
وقال: إن أصدقاءه الانجليز قالوا له: إنهم ملوا قراءة الكتب والمقالات التي يكتبها عن العرب أوربيون جعلوا من أنفسهم خبراء فيما يكتبون.. وأنه قد آن الأوان ليكتب مواطن عربي كتاباً باللغة الإنجليزية يوضح فيه وجهة نظره حول تاريخ بلاده الحديث.
وقال: إنه بدأ بتأليف هذا الكتاب، ولكنه يأسف “.. فقد مضى الآن أكثر من أربعين سنة على تركي الديوان الملكي، وبمرور الزمن لم تعد ذاكرتي من حيث القوة والكمال كما كانت. وعلى أية حال فقد بذلت جهدي، وأملي أن يعذرني القارئ الكريم على ما قد يجده من أخطاء دون قصد مني”(4).
وقال: إن الدافع الأكبر لكتابته هذا الكتاب هو أنه أراد أن يعبر عن تقديره الخاص لذكرى ذلك الرجل الذي أصبح معجباً به أكثر من إعجابه بغيره من الرجال.
وقال محمد المانع وهو يروي سيرته لمحمد الوعيل ضمن زاوية (ضيف الجزيرة) والتي نشرت على حلقتين بجريدة الجزيرة يومي الجمعة 29/7/1983م و 5/8/1983م تحت العناوين: “.. حوار لا ينتهي مع المترجم، والطبيب، والصحفي، والمؤرخ محمد بن عبدالله المانع.. عندما يتحدث التاريخ.. الملك عبدالعزيز ولد قائداً.. والتاريخ لم ينصف جهوده العظيمة في توحيد هذا الكيان.. ما هو الدور الذي لعبه أمير الكويت بين طالب النقيب والملك عبدالعزيز؟ وما موقف الإنجليز من ذلك؟.. أوامر من الملك عبدالعزيز إلى إبراهيم بن معمر قائد حملة الرشاشات تنهي معركة السبلة في نصف ساعة!.. أعتبر نفسي أول صحفي يجري حواراً صحفياً مع حافظ وهبة والدملوجي، وهما من رجال الملك عبدالعزيز.. هاجر والدي من الزبير إلى الهند خوفاً من بطش طالب باشا النقيب.. دعوة خاصة من أمير الرس وطريقة ذكية من الملك عبدالعزيز فرجت أزمة دبلوماسية. من (بصرة تايمز) كانت بداية مغامراتي الصحفية مع رئيس تحريرها الإنجليزي. تسع سنوات بين (الكواليس) في الديوان الملكي شاهدت خلالها البداية (الدرامية) لقصة الزيت في المملكة.. أعترف بصعوبة مهنة الترجمة ومصدر اعتزازي هو أنني كنت مترجماً لقائد أمة اسمه عبدالعزيز.. ماذا قدمت الزبير للوطن؟.. وما هو الدور الذي لعبته مدرسة النجاة في حياة هؤلاء؟.. عمل والدي في تجارة الخيول.. وأكثر زبائنه من مهراجات الهند والانجليز.. مدحت شيخ الأرض اشترك كطبيب حربي في معركة السبلة، إلى جانب عمله كطبيب خاص لجلالة الملك.. طلب مني الملك فيصل أن أعلمه الإنجليزية، كما أعد نفسي أستاذاً ليوسف ياسين.. بسبب إعجابي بـ (صقر الجزيرة) ألفت كتاباً عن توحيد المملكة أعده مصدراً تاريخياً. المترجم الذي يقضي كل حياته في الترجمة، إما أن يكون فيلسوفاً أو أن يصبح مجنوناً..”.
وقد أورد ترجمته حسب البطاقة الشخصية: الاسم محمد بن عبدالله بن مانع الغيلان، العمر 80 سنة، مكان الميلاد: الزبير، الحالة الاجتماعية: متزوج وعنده أولاد، العمل: رجل أعمال.
قال عن سبب هروب والده إلى الهند: “كان والدي صديقاً للأمير محمد العصيمي وهو من أهل الزلفي ووكيلاً لمزعل باشا السعدون أمير المنتفق بالناصرية، ووقتها كانت الإمارة منحصرة بين إبراهيم الراشد من حريملاء وخالد العون من حرمة، وأذكر أنه كان في ذلك الوقت بزغ نجم طالب باشا النقيب في البصرة، وبعد وفاة مزعل وتركه ثروة في ذمة محمد العصيمي الذي طمع فيها النقيب وحاول الاستيلاء عليها.. وكان الوالد صديقاً للعصيمي وبالتالي فضل جانب الأمان على أن يكون طرفاً في هذا النزاع فقرر السفر إلى الهند هرباً من بطش طالب النقيب.
قال: إنه بعد مرور تسع سنوات من عمله بالديوان مل وفكر بالعودة إلى الهند، فأبلغ ابن عمه عبدالعزيز الجويسر الذي يعمل بشركة أرامكو فنقل رغبته إلى يوسف ياسين، فعرض ابن عمه الأمر على شركة أرامكو فوافقوا على انتقاله للعمل مترجماً. فقام بتأسيس أول قسم للترجمة في الشركة.
ثم استقال من الشركة وقال: “ أغرتني المقاولات، فأصبحت أكبر مقاول لأرامكو وقال: إنه بنى راس تنورة والفلل الموجودة هناك، وذكر شركاءه: محمد الخزيم، وعبدالرحمن بن عثمان، وقال عند مجيء ( توتشيل) للتفاوض مع الحكومة في موضوع الامتياز، كان يقول إذا جاءت الشركة إلى هنا فسوف تصبح هناك مدن وتجارة ومدارس ومطارات وسكك حديد.. وكانت الدمام وقتها تتكون من 250 عشة، والخبر 125 عشة فهذا وضع المنطقة وقتها.
وقال: “أرامكو جعلت مني مقاولاً كبيراً وناجحاً في الوقت نفسه، ليس أنا وحدي فقط وإنما أنا وسليمان العليان، وعلي التميمي، وعبدالله فؤاد، جعلتهم أيضاً من كبار المقاولين في المنطقة”.
وعن سؤال: كيف استطاع الملك عبدالعزيز أن يثبت حكمه رغم الأحداث التي حدثت ضده؟
أجاب: كان ذلك بفضل تسامحه ورحمته وحنكته السياسية، فقد كان يعفو عن أعدائه مرة ثانية وثالثة. وغالباً ما كان يوليهم مراكزهم نفسها مما جعلهم في النهاية يعطونه ولاءهم ويزيد احترامهم له”(5).
وفي الحلقة الثانية من حواره مع الوعيل قال:
“ نعم أنا (ثري) وخدمة (طب العيون) عمل إنساني أعتز به.. وقالت ابنته سناء المانع: دخلت الطب بناء على رغبة والدي.
وكان والده يطمح أن يكون طبيباً، فحقق رغبته أخيراً بعد تقاعده من الديوان الملكي ومن أرامكو، أي بعد ربع قرن أسس مستشفى العيون بالخبر.. فحقق بذلك حلم والده.
وذكر عبدالرحمن الشبيلي في ترجمته لإبراهيم بن محمد المعمر في (أعلام بلا إعلام) ج1 ِأنه نال حظاً من التعليم الحديث خارج منطقة نجد.. فكان في ذلك يشابه حظ شخصيات مثل: الأمير أحمد الثنيان، وابن سليمان، و(المترجم) محمد المانع، وجميعهم من رجالات الديوان الملكي، وكذلك بعض التجار المرموقين في تلك الأيام، ممن درس في الهند أو مصر أو بلدان الخليج.. وذكر محمد المانع في كتابه: توحيد المملكة العربية السعودية، أن المعمر كان على رأس مفرزة الرشاشات والمدافع التي كان لها دور حاسم في معركة السبلة .. وقد وردت عنه إلمامات محدودة في كتابات حمد الجاسر ومحمد المانع وعبدالله فلبي.. الخ.
ووضع الشبيلي أمام اسمه صفة أو وظيفة (المترجم) ليميزه عن سميه محمد المانع (الشيخ) (6).
وقد ترجم للمانع في (موسوعة تاريخ الملك عبدالعزيز الدبلوماسي): “محمد بن عبدالله بن مانع الغيلان، عمل مترجماً للملك عبدالعزيز من سنة 1345هـ (1926م) وحتى عام 1354هـ (1935م)، وهو من مواليد الزبير سنة 1322هـ (1904م) أو (1905). ولأسباب تتصل بالصراع مع والي البصرة سافر أبوه إلى الهند واصطحبه معه وهناك تعلم اللغة الإنكليزية وأتقنها، وتثقف بعيون الأدب الإنكليزي، وقد رافق الملك عبدالعزيز في زيارته للبحرين، وفي مقابلاته مع الملك فيصل ملك العراق”(7).
ونجده بعد استقراره بمدينة الخبر، وافتتاحه لمستشفى العيون إلى جانب مكتبة ثقافية، يكتب بجريدة (أخبار الظهران) سلسلة من المقالات تحت عنوان: (في شؤوننا.. ثروتنا الزيتية) بدءاً من العدد 23 في 20/6/1375هـ 3/2/1956م وقد رأيت منها أربع حلقات.
————-
(1) توحيد المملكة العربية السعودية، محمد المانع، ترجمة عبدالله العثيمين، ط1، 1402هـ 1982م ص246، 255 .
(2) توحيد المملكة ص9-10.
(3) توحيد المملكة ص15.
(4) توحيد المملكة ص17-19.
(5) جريدة الجزيرة العدد 3956 الجمعة 19 شوال 1403هـ والعدد 3963 الجمعة 26 شوال 1403هـ.
(6) أعلام بلا إعلام، عبدالرحمن الشبيلي، ط1 ج1، ص246، 252، 254، 393 .
(7) موسوعة تاريخ الملك عبدالعزيز الدبلوماسي، فهد السماري وآخرون، الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ط1، 1419هـ 1999م. ص615.